
اسس الحداثة
أمام
التطور الهائل الذي يعيشه العالم اليوم، أصبحت المجتمعات تفقد بريقها ولمعانها في جل
المجالات نظرا لحاجتها إلى مسايرة العولمة ومتطلبات الحداثة؛ إذ أصبح هذا الأخير مفهوما
مبهما ما فتئ يشكل شعارا بالنسبة للعديد من المنظمات و القوى العصرية، وصار رائجا في
خطاباتنا اليومية.
فما أبرز التأويلات لتعريف الحداثة؟
وما المقومات والأسس التي ينبني عليها؟
وما مظاهرها في المجالين الاقتصادي والسياسي؟
الحداثة مصدر ثلاثي صريح من الفعل "حدث"، ومعجميا، تعني الجدة
ونقيضها القدامة. ويشير هذا المفهوم إلى نمط حياة و أسلوب عيش يستلزم من الإنسان أن
يعيش عصره، كما يشير إلى تصور وفكر يستند على حضور علوم ومعارف
وينبني هذا المفهوم على مقومات وركائز و أسس، و أولها العقل، الذي اشتق
من الفعل"عقل" أي ربط. وسمي كذلك لأنه يعقل صاحبه من الوقوع في الزلل. وهو
ملكة ممجدة وهبها الله تعالى الإنسان لتمنحه القدرة على التمييز والحكم والوعي و الإدراك
وتجنب الندم. كما يشير إلى تلك الوظيفة من وظائف الدماغ المتجلية في العمليات الذهنية
التي يقوم بها لإنتاج العلوم و المعارف. أما ثاني هذه المقومات، فيتجلى في الفاعلية،
وتعني الدينامية التي تقود الإنسان إلى التجديد والتغيير، ونقيضها السكونية التي ترمي
بالمجتمعات في عوالم الاستقرار السلبي باعتباره مثابة موت معنوي. وتشفع فاعلية الفرد
بالإيجابية المتجلية في الإخلاص و الصواب، والتي تعمم النفع على الفرد والمجتمع، على
خلاف السلبية. وآخر هذه المقومات هو الحرية. فهي حق فطري جبلي وشرط وجود الإنسانية،
ونقيضها العبودية و الاستغلال والرق،لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" كما تجذر الإشارة إلى القيمة العالية التي
يتميز بها هذا المفهوم، وإلى ضرورة الكفاح من أجل تحقيقه، تبعا للقولة المأثورة: الحرية
شجرة تسقى بدماء الشهداء". وتعد الحرية دعامة الحداثة لقدرتها الفائقة على تحقيق
الإبداع، والذي هو مظهر من مظاهر الحداثة. و يمكن تقسيم الحرية إلى وجدانية وفكرية،
الذي هو أسمى أنواع الحرية، على عكس الحرية الجسدية التي ترتبط بزمان ومكان، ويمكن
حدوث الإبداع بدونها
وكباقي المفاهيم،ترتبط الحداثة بمظاهر تعكس وجودها في المجتمع. ففي الميدان
الاقتصادي، نلاحظ إلغاء الحدود الجمركية ولمعيقات أمام التجارة الخارجية، كما ساهمت
في تنشيط السياحة و الانفتاح على دول أجنبية عبر بقاع العالم. أما في الميدان الصناعي،
فقد دخل استعمال المكننة إلى عدة دول نامية. كما أن المواطن أصبح يستفيد من توفر جميع
المنتجات التي قد يحتاجها، بل وتتعدد فرص اختياره بين المنتجات المحلية و الأجنبية
المنافسة لها. أما في المجال الفلاحي، فلم يعد الفلاح مقتصرا على الحقل فحسم، بل تعداه
ليصير رجل أعمال، كله بفعل الحداثة. وفي المجال السياسي، فتتجلى أبرز معالم الحداثة
والتجديد في إدخال نظام حكم ديمقراطي إلى عدة شعوب، حيث تنمحي آثار الاستبداد والدكتاتورية،
وكذا بإدخال حقوق الإنسان إلى عدة دول نامية مهمشة
من أجل كل هذه الأسباب، تعد الحداثة تغيرا جذريا بالمجتمعات نحو الأرقى
إذا ما استغلت استغلالا جيدا، فالعالم العربي متمكن من الاستفادة من حادثات الغرب و
أمريكا، لكن في حدود والتزاما بشروط أبرزة تحصين الذات والحفاظ على الهوية، ثم الانفتاح
على الآخر في حدود استطاعتنا و حاجاتنا. ألا يقال أن الحاجة أم الاختراع؟ فالمغرب مثلا
ليس في حاجة إلى الفنادق والمطاعم الفاخرة والملاهي... هناك أناس يموتون جوعا وبردا،
هم أحق أن يهتم بهم. فقد لعبت الحداثة في هذا الميدان دور طمس الهوية المغربية والمبادئ
العريقة، وإخضاعه للتقليد والتبعية للغرب و أمريكا، واختلال شروط السلامة الخصوصية
لتعويضها بالكونية
ختاما، يمكننا القول أن الحداثة مفهوم مبهم يستلزم المزيد من الحذر. فهو
يرتكز على مقومات ويرتبط بشروط. إنه بمثابة سلاح ذي حدين، ينبغي استعماله فيما يعمم
النفع على الفرد والبشرية جمعاء
من انجاز التلميذة المتميزة مونية جوهر