• slider
  • slider
  • slider
  • slider


  • قراءة في ديوان دم وقلم للشاعر محمد بن ادريس بلبصير

      مداخلة حول ديوان (دم وقلم) للشاعر "محمد بلبصير"
    بقلم الأستاذ المتدرب : هشام الخليفي
    بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    ربما يكون حديث الغاية غير معلوم لدى البعض في محتوى هذا الديوان، وربما يشوب بعض الغموض حول ما حوته قصائده من شعر وبيان، وربما يكون واضحا يكشف عما بداخله من أفراح وأشجان، وربما يُحمّله البعض ما لا يتحمل فيتيه في أودية التأويل والهذيان. كيفما كان الحال يبقى مفتوحا لكل قراءة وبيان، ولكن ما لا يختلف عليه اثنان أنه شعر بكل الأوزان، فيه حضور قوي للشاعر الإنسان.
    إن دافع علتي فيما أقمته كمحرر لهذا الخطاب ليس الغاية منه تحليل هذا الكتاب، فتلك غاية تنأى عن الاقتراب ممن له باع في العلم والآداب، فكيف بمن للتو ولج هذا الباب. إنما هي نظرة خاصة لمن تذوق  فيه السحر والجمال، وعرف ما فيه  من حكم وأمثال، وما يحث عليه من مكارم الأخلاق والأعمال، فراح يتنقل فيه من قصيدة إلى قصيدة ومن بيت إلى بيت ومن كلمة إلى كلمة، فإذا به ينبض بالحيوية والحياة، ويعبر عن الواقع والخلجات، وينتحي أغوار الذاكرة والغيبيات.
    وهكذا بينما أراوح نفسي على تجوال فكري في أنحاء هذا الديوان، أثارتني وتثيرني ومازالت موجات ألم تعتصر فؤادي حول ما آل إليه حال أمتي في هذا الزمان، الذي ندّ فيه الشعر الصادق والأدب الهادف، فها نحن محاصرون من كل جهة بسيل عارم من النصوص الشعرية واللّاشعرية، محاصرون في الصحف والمجلات، والملتقيات، والقنوات الإذاعية والتلفزية بهذا الكم من الشعر المتدفق الذي بات اليوم يزدهر في محرمات كثيرة وينمو على أوتار قلقة، ألفاظ هجينة، ومعان غائبة أو مبتذلة، مواضيع تافهة، وشعرية مفككة، أخطاء بالتقسيط والجملة في اللغة والأوزان والقافية، والأهم من كل هذا وذاك انفلات في المعنى وغياب الهدف والقصدية، ولعل هذا هو السبب الذي أحدث بونا بين القارئ والقصيدة.
    لقد باتت القصيدة العربية والمغربية بخاصة، تنزع نحو فكرة الفراغ أو العبثية، وما كان بالإمكان أن يصاب الشعر بهذه المصيبة، ولا أن يجري الشاعر وراء هذا الوهم لو لم يتواطأ النقاد، ويتخلى النقد عما على عاتقه من مسؤولية.
    لقد انشرح الشعراء لتستر النقاد على هذه الفضيحة، إذ شهدوا لهم بالشاعرية، حتى وهم يدركون أن هؤلاء لا يقولون شيء، وإذا قالوا جاء كلامهم فجا. وهكذا وجد الشعراء في تواطؤ النقاد الملاذ الذي يختبئون فيه، ويتوارون خلفه، للإجهاز على الشعر، وقتل روح الإبداعية.
    لقد أعفى النقاد الشعراء من إنتاج نص يصير حجة وشاهدا للدحض                   أو التزكية، وأعفى الشعراء النقاد من مكابدة النص واختبار ذائقتهم الشعرية والنقدية، فصار الطرفان جنبا إلى جنب في تناغم يحزن عشاق الشعر، وينفرهم من كل ما جدّ من قافية.
    ننقل عن محمود درويش حواره مع أحد النقاد قال:  " قلت لناقد كبير: لماذا            لا تتدخل، لماذا لا تكرس طاقتك النقدية الكبيرة لدراسة الشعر الحديث في محاولة لاستنباط بعض القواعد والضوابط فتساهم في وضع حد لهذه الفوضى؟ قال لا أفهم ولا استطيع القول، إن معظم هذا الشعر من الرواد إلى النقباء إلى الأنفار ليس شعرا، وأخشى التعرض لتهمة المحافظة من النقاد الجدد الذين يدرسون القصيدة الغامضة بمقال أشد غموضا..."
    ولا يقتصر هذا التبرم  من الشعر التافه  الذي اكتسح الساحة الأدبية على النقاد والقراء وحدهم، بل حتى الشعراء أنفسهم  منهم من يضيق به ويعلن سخطه عليه. فهذا محمود درويش نفسه المشهود له في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والذي يعتبر حجة في الإبداع  نجده يعلن تبرمه الشديد من هذا الشعر قائلا: " إن ما نقرأه منذ سنين  بتدفقه الكمي المتهور ليس شعرا، ليس شعرا، إلى حد يجعل واحدا مثلي متورطا  في الشعر منذ ربع قرن مضطرا لإعلان ضيقه بالشعر، وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه ولا يفهمه. إن العقاب الذي نتعرض له يوميا من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر يدفعنا أحيانا إلى قبول التهمة الموجهة إلى الشعر العربي الحديث".      
    أظن أن كل تحليل بعد هذا الشاهد يروم الزيادة في بيان هذا الوضع الراهن، لن يضيف إلى القارئ أكثر مما يفهمه مباشرة من هذا الضجر المكين.
    أليس من حق القارئ أن يتساءل عن هذا الشعر الذي لا يملك من صفة الشعرية إلا اسمه؟ أليس من حقه أن يتساءل عن هذه القصائد التي لا تتناول مشاكله ولا تعبر عن واقعه وقضاياه؟
    بالطبع من حقه، ومن حقه أيضا أن يثبت الشاعرية لمن يستحقها، وينزعها عن من يدعيها بلا حجة ولا دليل. فالقصيدة التافهة التائهة الغامضة الفارغة من كل معنى مجرد هذيان لغوي. ورحم الله أحمد شوقي إذ يقول:
    والشعر إن لم يكن ذكرا وعاطفة       أو حكــــمة فتقــطـــيـع أوزان  
    إذن فالقصيدة التي لا تذهب إلى أحد، ولا تأتي إلى أحد، ولا تنزع إلى معنى، ولا تحمل وظائف ولا رسائل ولا مهام، الأكرم لها أن تموت في صدر قائلها، وأن يموت قائلها في عتمة الصمت. لا أن تخلق أزمة بين الشعر وقرائه، وتشوه سمعة القصيدة.
    ويجب أن لا يحمل كلامنا هذا على أننا نرفض الشعر الحديث والمعاصر جملة وتفصيلا، ونفضل عليه القديم تفضيلا، لا والله ما نروم إلا الصدق والموضوعية، فكما أن الشعر القديم فيه الجيد والرديء، وفيه الصالح والطالح فكذلك الحديث. فلسنا من دعاة هذا ولا ذاك، وإنما من دعاة الجودة أينما كانت.
    لقد وصل الشعر المعاصر إلى مستويات عالية في الإبداع لا ننكرها، وارتقى إلى مراتب في التعبير والكشف نعلمها، وفجر الطاقة الإبداعية في اللغة، وأبان عن ذخائرها النفيسة، وتجاوز المرئيات إلى المتواريات.
    لقد اخترقت القصيدة المعاصرة كل الحواجز، واستوطنت عند كل العتبات، ولمست المجهول من القول والصورة، وتعبأت بالرمز والأسطورة، وخاضت حربها على الفكرة المنثورة، وتجاوزتها، في أجمل كلام وأحسن صورة.
    لقد قطع الشعر الحديث مراحل كبيرة أدت إلى خلق عطاءات كثيرة، وظهر من خلال هذه العطاءات نماذج جديدة  عبرت عن ارتباطها بالواقع، وبقضايا الإنسانية.
    ولكنها على كثرتها لا تقارن بما في الساحة الأدبية من القصائد العبثية، التي تكاد تخلو من سمات الشعر الحقيقية.
    إن الشعر الذي نطلبه – بصرف النظر عن شكله والخطابات التي تؤطره أو يندرج ضمنها –  نطلبه لذاته لا لخلفياته، فلا يهمنا إن كانت القصيدة قديمة أو حديثة، عمودية أو حرّة، ما يهمنا هو أن تكون فيه عاطفة وخيال، وله قصد ومآل، يعبر عن واقع الأمة المرير، ويسعى إلى التغيير، يمزج بين التجربة الفنية بوصفها تجربة خيالية ممتعة، تنبع كقيمة ذاتية من اللغة الشعرية والصور الفنية، وبين التعبير عن القضايا الاجتماعية والإنسانية، بلغة مبدعة وراقية، تسمو عن الابتذال وتنأى عن الألفاظ الغريبة والحوشية.
    وإنه مما يفرح القلوب الصادقة فيزيل يأسها، ويعيد إليها الأمل، فتسعى إلى الجد والعمل أن ترى مثل هذا الديوان يبزغ في هذا الزمان، من شاعر نحرير هو السيد محمد بلبصير.
    فالشعر عنده ينشأ وفق رغبات نلمسها في القصيدة الجيدة، وهذه الرغبات عريضة ومتدفقة بمشاعر وأحاسيس رقيقة ومتطورة. إنه كعدد من الشعراء الملتزمين يصارع القيم ويتحدى الصعاب بما له من ثبات رصين، وعزيمة قوية. رغم ما به من بلية، لكن الله عوضه بالبصر نورا في البصيرة، فليس العمى عمى العين ولكن العمى عمى القلوب [ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور] فالسي محمد بلبصير بصير         بعقله، بصير بقلبه، بصير بروحه الطيبة، فقد أبصر ما عجز عنه المبصرون، تبرجت له الحقائق  وتكشفت له الجواهر واللآلئ. فسار ينثرها في ثنايا ديوانه.
    لقد ركبت غمار الحروف، ومجال المعاني، وبحثت في محيط اللفظ عما توارى خلفه من مقاصد ومرامي، فوجدت ارتباط الشاعر العميق بقضايا مجتمعه وأمته، وبأحوال عصره وثقافته، وبهم دينه وشريعته، وجدت شعره مملوء بروح التمرد والثورة والدعوة إلى الحرية، يقول في ( أنا الثورة): (ص 106)
    لتلقي في قلوبكــــــمو نداء      أنا أنا ثورة الشعب المناضل  
    ويقول في ( الفجر المنتظر):( ص 107)
    أيها الشعب الأسير المتـــــلهّي       بعذاب الصبر رفقا بالضمير
    قد مللنا الصبر والإطراق قهرا      ومللنا الذل والجأش الصبور
    ومللنا ثورة تمضي جزافـــــــا      فمتى للشعب حقا أن يثـــــور
    إن الثورة التي ينشدها شاعرنا ويحث عليها هي الثورة على الظلم والمهانة، الثورة من أجل الحق والكرامة، الثورة على الأمية الفاشية، وعلى البطالة والطبقية، وعلى الفقر والتبعية، الثورة على القيم الغربية السلبية، الثورة من أجل الدين والعقيدة المحمدية...لذلك نجده يستحضر الشخصيات التراثية ذات الأبعاد التاريخية والدينية، فاستحضار شخصية النبي صلى الله عليه وسلم نداء يحذوه أمل بعودة الأمة العربية والإسلامية كما كانت في عصورها الذهبية، رائدة وسائدة وقائدة لجميع البشرية بالحق والعدل والأوامر الإلهية.
    لقد كانت رحلة مشوقة أصبت فيها فوائد جمة، تخلصت بها من هموم الشك والحيرة، وتعرفت فيها على سفر يحكي تجربة إنسانية بلغة شعرية راقية، هو زبدة ما أنتجته نفس شاعرنا الطيبة، هو عصارة قلب تدفق دما  في قلم كان وفيا  لشخصية بصيرة متبصرة، هو آهات وحسرات وزفرات صادقة  على واقع أمة جريحة كسيرة، هو تعبير صادق عن واقع  الظلم والخيانة، هو تعبير قوي عن واقع الذل والمهانة، إنه سفر يستنهض الهمم ويسعى إلى القمم، حري بأن يقرأ ويدرس وتأخذ منه العبر والقيم.

    المصادر والمراجع:
    ü     القرآن الكريم.
    ü     ديوان دم وقلم، محمد بن ادريس بلبصير،مطبعة طوب بريس،الطبعة الأولى 2012، الرباط.

    ü    بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد، محمد عدناني، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلد 34، يناير مارس 2006.


    صفحتنا


    عدد المشاهدات